فقه الدولة في الإسلام: مقاربة مقاصدية للقوانين الوضعية المعاصرة
مقاربة مقاصدية للقوانين الوضعية المعاصرة في الإسلام
يبرز واجب علمي وفقهي وحضاري يقتضي إعادة وضع المسألة في سياقها الصحيح، بعيداً عن التبسيط المخلّ، وعن منطق التكفير والمزايدة على الدين، وبمنهجية تجمع بين أصول الفقه، ومقاصد الشريعة، وفقه الواقع، وسنن العمران الإنساني. إن الشريعة الإسلامية، في ضوء بنيتها المقاصدية، لم تُنشأ بوصفها نسقًا نصيًا تفصيليًا مغلقًا يستوعب جميع الجزئيات المتغيرة عبر الأزمنة، وإنما قُصِد بها أن تكون منظومة هادية تقوم على مقاصد كلية وقواعد عامة وأصول ضابطة، تتيح للعقل الاجتهادي فاعلية التأويل والتنزيل، بما يضمن استمرارية الشريعة وقدرتها على مواكبة التحولات الاجتماعية والتشريعية، وتحقيق مقاصدها العليا في جلب المصالح ودرء المفاسد وفق مقتضيات الواقع.
الاجتهاد في الفقه الإسلامي
قد عبّر الإمام مالك بن أنس عن هذا المعنى بوضوح حين جعل المصلحة المرسلة أصلاً معتبراً، وكان يقول ـ كما نقل عنه أصحابه ـ إن «الأمر إذا نزل بالناس مما لا نص فيه، نُظر فيه بما يصلحهم». وهو ما يدل على أن التشريع ليس حبسا للنص، بل تنزيلٌ له على واقع متغير. وقد قرر إمام الحرمين الجويني في البرهان أن الوقائع لا تتناهى، والنصوص متناهية، ولولا فتح باب الاجتهاد المبني على المصالح لتعطلت الشريعة، مؤكداً أن «مقصود الشرع الأعظم هو حفظ النظام العام للأمة، وصيانة المصالح الكلية التي لا قيام للناس بدونها». وهذا الكلام يهدم من جذوره دعوى أن كل تنظيم قانوني خارج عن النص التفصيلي هو بالضرورة خروج عن الشريعة.
الاجتهاد في القوانين الوضعية
ومن هذا المنطلق المقاصدي، فإن القوانين المنظمة لحياة الناس اليوم ــ سواء تعلقت بالملاحة البحرية، أو الإدارة، أو الزراعة والفلاحة، أو الشركات، أو تأسيس الجمعيات والأحزاب، أو تنظيم المعاملات الاقتصادية، أو حماية البيئة، أو السلامة المهنية ــ لا تُنشئ ديناً جديداً، ولا تنازع الشريعة في مصدرها الإلهي، وإنما تؤطر مجالات لم يرد فيها نص تفصيلي ملزم، وتندرج في نطاق «السياسة الشرعية» و«المصالح المرسلة» كما تدخل ضمن «منطقة العفو». كما جاء في الحديث الشريف: “إنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ فَرائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وحدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وحَرَّم أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وَسكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيانٍ فَلا تَبْحثُوا عَنْهَا” (رواه الدَّارقُطْني وَغَيْرهُ).
الاجتهاد في تحقيق المصالح
وقد اعتبر ابن القيم رحمه الله أن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها..، ثم قرر قاعدته الشهيرة: «فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل». ومما قرره العلامة الطاهر بن عاشور ـ بمعناه ـ أن التشريع الإسلامي لا يعارض سنّ الأنظمة والقوانين التنظيمية التي تفرضها المصلحة العامة والحضارة، ما دامت منسجمة مع مقاصد الشريعة. وأكد رحمه الله في مقاصد الشريعة الإسلامية أن «التشريع الإسلامي لا ينافي سنّ القوانين التنظيمية التي تقتضيها الحضارة وتفرضها مصلحة الاجتماع الإنساني»، بل اعتبر أن تعطيل هذه القوانين باسم الدين «سوء فهم لمقاصد الإسلام، وإضرار بمصالح الأمة».
للمزيد من الأخبار، زوروا موقعنا.
المصدر: اضغط هنا

اترك التعليق