بريد تيفي: مينة حُجبْ
حين أقدم المغرب سنة 2004 على تعديل مدونة الأحوال الشخصية، وتعويضها بدونة الأسرة، التي جاءت بمقتضيات جديدة اعتبرت متقدمة، بالمقارنة مع ما كان معتمدا في تنظيم العلاقة الزوجية والعلاقة بين الأزواج والأبناء، اعتبرت هذه الخطوة إيجابية وجريئة من قبل مختلف الأطياف السياسية والثقافية، في ظل ما كان سائدا من نزوعات تعتبر قانون الأحوال الشخصية نصا مقدسا وشرعيا لا ينبغي التطاول على تغييره.
ورغم الارتياح الذي خلفته مبادرة تكسير طابو قدسية هذا النص الوضعي، إلا أن الحركة النسائية المغربية لم تكن راضية كل الرضا عن كل التعديلات التي شملت مدونة الأحوال الشخصية، وأتمرت مدونة الأسرة، ذلك أنها ظلت ترصد ثغرات يكشفها الواقع والقضايا التي تعرض على أنظار المحاكم، وتكشف أنه، باعتماد هذه المدونة، مازال المغرب بعيدا عن بلوغ المساواة، وحماية النساء من بطش العادات والتقاليد، التي قد تكون بعض بنود مدونة الأسرة بمضامينها الجديدة تقننها وترسخها، عوض محاربتها والتصدي لها.
وبالرغم من نص مدونة الأسرة على عدم تزويج الفتيات دون سن الثامنة عشرة، لم يتقلص عدد زيجات القاصرات في المغرب كثيرا، لأن السلطة التي منحت لجهاز القضاء أنتجت حالات تزويج القاصرات بنسب مهولة، إذ كشف إحصاء لوزارة العدل المغربية أن زواج القاصرات وصل سنة 2014 إلى أكثر من 33 ألف زيجة.
وكشف تقرير التنمية البشرية بإفريقيا لسنة 2016 أن نسبة زواج القاصرات بالمغرب بلغت 16 بالمائة، وهي ثاني أعلى نسبة على الصعيد المغاربي.
تنص المادة 20 من مدونة الأسرة على أن “لقاضي الأسرة المكلف بالزواج، أن يأذن للفتاة أو الفتى بالزواج دون سن الأهلية وهو 18 سنة، وذلك بإصداره لمقرر يعلل فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك”.
أما المادة 21 من القانون ذاته فتقول إن “زواج القاصر متوقف على موافقة نائبه الشرعي، الذي يوقع مع القاصر على طلب الإذن بالزواج ويحضر معه إبرام العقد، وفي حال امتناعه أو عدم موافقته على الزواج يبت القاضي في الموضوع”.
فمنذ سنة 2004، ظلت أهم المقتضيات التي تضمنتها مدونة الأسرة وأثارت العديد من النقاش والجدال، ما نصت عليه بشأن تزويج القاصر، ذكرا أم أنثى، وإن كان الأمر يطرح بحدة بالنسبة للفتيات القاصرات لاعتبارات واقعية، إذ يلاحظ، من خلال إحصائيات وزارة العدل أن طلبات الإناث، بمعنى طلبات أولياء أمورهن، من أجل تزويجهن، تشكل النسبة الأكبر بين طلبات الإذن بالزواج دون سن الأهلية، ذلك أن طلبات الذكور لم تتعد 326 طلبا سنة 2011، مقابل 46601 طلبا للإناث، والأمر نفسه يلاحظ خلال السنوات السابقة، إذ بلغت طلبات الذكور 438 طلبا فقط، مقابل 44134 طلبا للإناث سنة 2010، وانحصر عدد طلبات الذكور القاصرين للإذن بالزواج، سنة 2009، في 174 طلبا، فيما بلغ عدد الطلبات المتعلقة بالإناث 46915، ولهذه الأرقام والإحصائيات دلالاتها.
أن يكون عدد طلبات أولياء أمور الفتيات من أجل تزويجهن مرتفعا بهذا الحجم، مقارنة مع عدد طلبات أولياء أمور الفتيان الراغبين في الزواج دون سن الأهلية، فذلك مرده إلى عدة اعتبارات اجتماعية أولا واقتصادية ثانيا، إلى جانب اعتبارات أخرى.
فالاعتبارات الاجتماعية تتأسس على أن المرأة خلقت للزواج والإنجاب ورعاية الأطفال والقيام بالأعمال المنزلية، وهنا يتقاطع الاجتماعي مع الاقتصادي، إذ لا ضرورة لأن تكون المرأة عنصرا منتجا اقتصاديا، لأن الزوج هو من يضطلع بهذه المسؤولية، وهو ما يجعل النساء أكثر عرضة للفقر.
ومن بين الاعتبارات الاجتماعية التي تفسر ارتفاع نسبة طلبات تزويج الفتيات دون السن القانوني، مقارنة مع الفتيان، أن الفتيات يزوجن لأزواج أكبرهن بسنوات، بل أحيانا بعقود، والمجتمع المغربي، مازال يقبل أن تتزوج الفتاة القاصر بكهل أو حتى بشيخ هرم، لكن يمتعض حين تتزوج المرأة رجلا يصغرها سنا، ولو كان الفارق بضع سنوات.
ما يهم من خلال كل ما سبق هو استحضار نتائج تزويج القاصرات، سواء على مستوى الفرد، أي الفتاة، أو على مستوى المجتمع والوطن، وهي مستويات تتقاطع في ما بينها.
فتزويج الفتاة دون سن 18، يعني بالأساس حرمانها من الدراسة، ما يحيل على حرمانها من التكوين، أحرى ولوج سوق الشغل وضمان الاستقلال الاقتصادي والإسهام في التنمية، وتزويج الفتاة دون سن الأهلية معناه جعلها تتخندق، مبكرا، في خانة القيام بالأدوار نمطية، ويعني أيضا أننا نعرض حياتها للخطر جراء الحمل والوضع المبكر، كما يعني ذلك أننا نضع جيلا بين أيدي أمهات للسهر على تربيته، وهي لا تميز، بعد، يدها اليمنى عن يدها اليسرى، كما قال ليوناردو دافنتشي.
أن يسيئ تزويج الفتيات للفرد والمجتمع أمر له تداعياته وآثاره الوخيمة أكيد، لكن الأمر لا ينحصر عند هذا المستوى، ذلك أنه يجعل البلد بعيدا عن بلوغ أهداف التنمية المستدامة، التي تتأسس على “حشد الجهود للقضاء على الفقر بجميع أشكاله ومكافحة عدم المساواة”، وضمان تكافؤ الفرص “أمام النساء والفتيات في الحصول على التعليم، والرعاية الصحية، والعمل اللائق، والتمثيل في العمليات السياسية والاقتصادية واتخاذ القرارات”، لأن ذلك يعد “بمثابة وقود للاقتصادات المستدامة وسيفيد المجتمعات والإنسانية جمعاء”، وفق ما تنص عليه أهداف التنمية المستدامة التي اعتمدها العالم في شتنبر 2015.
في فاتح يناير من سنة 2016، بدأ رسميا نفاذ أهداف التنمية المستدامة الـ 17 لخطة التنمية المستدامة لعام 2030، ولم يعد يفصلنا عن هذا الموعد سوى 12 سنة، في أفق تحقيق هذه الأهداف، أو تحقيق أغلبها على الأقل.
فالهدف المتعلق بالمساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات بدأت إرهاصاته تظهر من خلال الدينامية التي شهدتها الحركة النسائية المغربية بشأن العديد من قضايا المساواة بين الجنسين، وعلى رأسها إعادة النظر في مدونة الأسرة في أفق تدارك النواقص التي تشوبها.
تجاوبا مع هذا المطلب، وبعد أقل من أسبوع على مصادقة المغرب على قانون العنف ضد النساء من قبل البرلمان، وبعد مرور 14 سنة على اعتماد مدونة الأسرة، جاء الملك محمد السادس بخطوة جديدة، دعا من خلالها إلى تعديل “نواقص” مدونة الأسرة، إذ قال “كما عملنا على تعزيز تماسك الأسرة، من خلال اعتماد مدونة متقدمة للأسرة، تراعي المصلحة الفضلى للطفل وتصون حقوقه، في كل الظروف والأحوال، داعين إلى مواكبتها بالتقييم والتقويم، لمعالجة النقائص التي أبانت عنها التجربة”.
وبمناسبة اليوم العالمي للمرأة أعلنت الأميرة للا مريم رئيسة الاتحاد الوطني لنساء المغرب، التي عينت سفيرة للنوايا الحسنة لمنظمة التعاون الإسلامي في مجال تمكين المرأة، والدفاع عن قيم الأسرة ومؤسسة الزواج، ومكافحة زواج القاصرات، عزمها رفع ملتمس إلى الملك يتضمن مختلف الإشكالات التي تهم قضايا المرأة والطفل، وأشارت في هذا الصدد إلى إشكالية زواج القاصرات، ومحاربة العنف والتمييز ضد النساء.
هذا المؤشر السياسي يدعو الآن، الحركة النسائية إلى الانكباب على رصد النواقص التي تشوب مدونة الأسرة، والحرص على الترافع من أجل منع تزويج القاصرات دون سن 18، كظاهرة تستنزف المجتمع، وتجعل المغرب دون بلوغ أهداف التنمية المستدامة.