“بريد تيفي”: سفيان الكداني
الرحيل من القرية إلى المدينة .
العربي ولد في البادية، بحيث ترعرع في بيت جده رفقة والدته وأخوه الأصغر بحكم ان والد العربي بطمة كان عاملا في السكك الحديدية بمدينة الدار البيضاء . لذلك فقد انتقل العربي وأسرته الصغيرة، من “مشرع بن عبو” إلى أكواخ السككيين بطريق الرباط .
بيد أنّ لهذا الانتقال وقع كبير على العربي حيث اضطر إلى الرحيل عن أصدقائه…و المدرسة ليجد نفسه في المدينة مضطرا إلى الرجوع إلى القسم الرابع من السنة الابتدائية، بعد أن كان في القسم الخامس في البادية، ذلك لضعف مستواه في اللغة الفرنسية.
رحيل معلم الحساب .
منذ صغره، كان العربي بطمة محبا للموسيقى، وأول من اكتشف صوت العربي هو استاذ الحساب الذي كان يدرسه في المدرسة الإبتدائية في البادية، لذلك فإن العربي بطمة أشار إلى رحيل هذا الأستاذ وعن الحزن الذي ألمّ به وبباقي زملائه في الفصل وهم بصدد توديع أستاذ الحساب منشدين “نادى الرحيل بالفراق”
الرحيل من مدرسة الشعب إلى ثانوية الأزهر .
بعد تجاوز المرحلة الابتدائية ، و مع بداية الستينات، وفي عمر 14 سنة ، انتقل العربي بطمة من مدرسة الشعب الكائنة بالحي المحمدي “درب مولاي الشريف ” إلى ثانوية “الأزهر” بوسط المدينة . هذا الرحيل نتج عنه معاناة مزدوجة أثّرت في مسار العربي :
المعاناة المادية :
بما أن ثانوية الأزهر توجد في وسط المدينة، فإن العربي والعديد من التلاميذ المنحدرين من الحي المحمدي كانوا يفتقرون للقدرة المادية على اقتناء بطاقة الحافلة، وكانوا يضطرون إلى أكل “الطون و الحرور” رغم أن عملية البيع لهذه المأكولات لم تكن تستوجب لأدنى شروط النظافة .
المعاناة النفسية :
بحكم أن العربي وأقرانه كانوا ينتمون إلى الطبقة المهمشة أو ” الكادحة” من المجتمع، فإنهم كانوا يعانون من غطرسة الأساتذة، خاصة المشارقة منهم بحكم امتلاكهم لسلطة المعرفة التي كان يفتقرها جلّ المجتمع المغربي أنذاك .
الرحيل من الكوخ إلى بيت من الاسمنت
بعد أن تمكن العربي من التعرف على أصدقاء جدد إبّان انتقاله من البادية إلى أكواخ “طريق الرباط” ، فقد وجد نفسه مرة أخرى مرغما على الانتقال أو “الرحيل”، هذه المرة سيغيّر العربي طبيعة المسكن، حيث أن أسرته سترتحل من الكوخ “البراكة” إلى بيت من الاسمنت ببلوك ” بناني ” ، وهو الشيء الذي خلق مشكلا للعربي الذي لم يتمكن من التأقلم مع أبناء هذا الحي، لأنه لم يستطع قطع صلته بأصدقاءه السابقين أبناء الأكواخ الذين نسج معهم أواصر صداقة لم يستطع الإنتقال إلى المسكن الجديد من هدمها .
رحيل الجد .
صورة الجد في حياة العربي لها وزن كبير، ذلك لأنه يُعتبر الأب الثاني له ، الشخص الذي رباه وسهر على رعايته حتى بلغ العاشرة من عمره .
هذا الجد الذي كان من وجهاء قبيلة “الشكة” ومن أغنياء القرية حيث كان يحتكم له البدو حين يشب خلاف بينهم بل و كان أيضا “شيخا للرماة” حيث كان مولعا بالقنص . هذه الهواية ستكون سبب مرضه بورم سرطاني على مستوى رجله أدى الى رحيله عن الدنيا تاركا وراءه حزنا عميقا في قلب العربي المراهق .
الرحيل من الثانوية إلى السجن
هذا المراهق الفقير المهمش سيتم تأطيره مثل باقي اقرانه من طرف اتحاد طلبة المغرب مستغلين، على حد قوله، عنف هذه الفئة ، حيث انه في إضراب سنة 1965 كان العربي وزملائه من أول الخارجين إلى الشارع، و المرددين لشعارات الاستنكار . وقد عرف هذا الإضراب تخريبا وتكسيرا لواجهات المحلات التجارية بل و وصل لسرقات وإضرام للنار في أماكن عمومية .
لقد كان جزاء جل المضربين هو الزج بهم في السجن، وبحكم أنّ العربي كان من المضربين، فقد قضى شهرا في السجن مما أثر على مساره الدراسي وجعله يغادر الثانوية دون استكمال تعليمه.
الرحيل نحو العمل
بعد أن انقطع عن الدراسة انتقل الشاب العربي إلى العمل ليعيل عائلته بحكم انه الابن البكر . فكان أول عمل يقوم به هو حراسة الدراجات أمام سينما السعادة بأجر يومي قدره (خمسة وعشرون ريالا ).
هذا العمل الذي سيغادر بسبب صغر سنه ، حيث آن الزبائن لا يثقون فيه ويتعارك معهم، مما أدى إلى طرده من طرف رب العمل “حسن شارلو” .
من حراسة الدراجات سينتقل العربي إلى العمل كقصاب في طريق الرباط هذه الحرفة التي قال عنها بأنها حرفة الأوساخ والدم والمعاناة . هذه الحرفة التي جعلت يدمن على الكيف حيث أن جميع زملائه في هذه الحرفة كانوا حشاشين .
بسبب جشع عبد الرحمان لطرش صاحب ورشة القصب، سينتقل العربي إلى العمل بمعمل لصنع الأحذية البلاستيكية، ليغادره بعد مدة قصيرة لصعوبة المهمة التي كانت موكلة إليه.
بعد معمل الصندالة اشتغل العربي بمعمل تصبير يصدر السمك للخارج، بحيث عانى فيه من زهد الأجرة وغطرسة صاحب العمل ، ذلك الرجل الفاسي ضخم الجثة وقاسي القلب .
بسبب كثرة الانتقال من عمل إلى آخر وزهد الأجرة وجشع المشغلين سيجد العربي بطمة نفسه عاطلا عن العمل .
“الرحيل” نحو عالم التسكع
بسبب انقطاعه عن الدراسة واستيائه من ظروف العمل التي عاشها، سيجد العربي بطمة نفسه وسط عالم التسكع والخمر والسرقة . حيث سيرجع إلى سينما السعادة هذه المرة ليس كحارس للدراجات بل كنشال رفقة جماعة من أبناء دربه ، حيث كانوا يستغلون الازدحام أمام شبابيك التذاكر لسرقة ما في جيوب الناس . و في ظل هذا الواقع المرير أصبحت حياته تختصر فقط في البحث عن الكيف والحشيش لتنطلق سلسلة مشاكله مع أسرته .
الرحيل من التسكع إلى عالم الفن (المسرح /الهاوي)
رحيل العربي بطمة إلى عالم الفن كان وليد الصدفة ، حين طلب منه فاعل جمعوي “ولد دربهم” أن يقدم مسرحية بمناسبة استضافة هذا الأخير لرجل دين سعودي . بعد انتهاء العرض المسرحي تلقى العربي التهاني من طرف بعض أبناء دربهم الذين كانوا من الحضور، لتكون بذلك أول خطوة في مساره الفني. بعد هذه التجربة سيعشق العربي فن المسرح وسيلتحق بفرقة هاوية .
هذا ما سيؤجج غضب والده الذي كان ينعته بأبشع النعوت…
“الحلايقي” “أبو بندير” ، “المسطي” فهو رحمه الله كان لا يريدني أن أكون فنانا ولا يرضى بأن يكون ابنه مسخرة في أفواه الأهل وسكان الدرب”5 .
بفضل هذه الفرقة الهاوية سيتعرف العربي بطمة على فرقة “رواد الخشبة” التي كانت تنشط بدار الشباب الحي المحمدي، هاته الفرقة التي كان من ضمن أفرادها “بوجميع” و “عمر السيد” وسرعان ما التحقوا بالمسرح الاحترافي.
الرحيل إلى المسرح الاحترافي
معرفة العربي لبوجميع وعمر السيد ستمكنه من الانتقال هو كذلك إلى المسرح الاحترافي بالمسرح البلدي، حيث سيلتقى بعدة ممثلين مشهورين على رأسهم “المدير”.
هنا ستبدأ مرحلة جديدة من حياة العربي بطمة حيث أنه بفضل احترافه المسرح ستسنح له الفرصة في السفر داخل وخارج أرض الوطن .
الرحيل من الخضوع لسلطة المدير إلى التمرد عليه .
الالتحاق بالمسرح البلدي كان له ايجابيات كما كانت له سلبيات ، من بين هذه السلبيات: اصطدام العربي ، بوجميع وعمر السيد إضافة إلى بعض أفراد الفرقة بالمدير حين كانت الفرقة في جولة فنية في فرنسا، وعلموا بأن المدير قد نعتهم بالفئران في حوار له مع جريدة فرنسية، الشيء الذي أجج غضب العربي وبعض أفراد الفرقة مقاطعين بذلك المدير ورافضين الامتثال لأوامره.
رحيل “جانين”
في سفره الأول إلى فرنسا رفقة فرقة المسرح البلدي، التقى العربي بفتاة فرنسية عشقها لأول مرة، لتبادله هي كذلك نفس الشعور، “جانين” التي كانت أول حب في حياة العربي الرجل. “جانين” التي رحلت عن حياة العربي بسبب ارتباطها برجل مغربي من عائلة ميسورة ومتقن اللغة الفرنسية، على عكس العربي الذي كان يعاني الأمرين من الفقر وعدم التمكن من اللغة الفرنسية.
رحيل افلين
بعد الخلاف مع المدير سيسافر العربي إلى فرنسا للمرة الثانية رفقة بوجميع، هذه المرحلة التي يصفها العربي هكذا :
“وفي باريس.. كان العذاب ، عذابا من شكل آخر، عذاب التسكع والمبيت في أبواب العمارات أو في متاهات غيران “الميترو” والهروب من الشرطة.”6
في هذه الظروف سيربط العربي علاقة بفتاة تدعى “افلين” أحبها بجنون واصفا إياها بالشبقية المحبة للفساد والضرب والسرقة ، هذا ما أثر عليه وجعله هو أيضا يرجع إلى عالم السرقة .
بعد مدة قصيرة ستهجره افلين دون أن يعرف السبب وراء هذا الرحيل.
الرحيل إلى الغناء وتأسيس مجموعة ناس الغيوان
إبان تواجده في فرنسا رفقة بوجميع يصف العربي بأن الأشهر الثلاثة التي قضاها هناك كانت كلها تشرد وتسكع ومعاناة، خلال هذه الأشهر الثلاث تمت كتابة قصائد زجلية وكلمات أغاني …
عند رجوع العربي و بوجميع إلى أرض الوطن استدعاهم “المدير” للعمل في مسرحية “الحراز”. بموازاة مع العمل في المسرح، ستكون لهما فرصة تقديم أغانيهما (التي كتباها في فرنسا) في مكان وراء بناية المسرح البلدي يسمى “كافي تياتر””Café Théâtre ” حيث قدما كل من “الصينية” “ما هموني غير رجال” “واش حنا هما حنا” “حلاب بويا الحليب” .
هذه الأحداث أسست البوادر الأولى لتكوين مجموعة ناس الغيوان.
لم يكن تأسيس مجموعة ناس الغيوان بالأمر الهين حيث أن العربي و بوجميع إضافة إلى عمر السيد عانو الأمرّين قبل إخراج هذه المجموعة إلى حيّز الوجود.
إنّ أول صعوبة واجهت هذا الثلاثي تجلت في أول تسجيل ، ذلك لان الساحة الفنية المغربية في بداية السبعينات كانت حكرا على الأغنية الشرقية العاطفية، ولم يكن من السهل أن يتم تسجيل هذا النوع من الأغاني باستوديوهات الإذاعة الوطنية، خاصة أنها تعتمد على آلات من الثراث الشعبي لم يسبق وأن تم التسجيل بها .
رغم كل التحديات فإن الأغاني الأولى للمجموعة اشتهرت بشكل سريع في الساحة الفنية المغربية هذا ما أكسب العربي شهرة واسعة خاصة بعد موت بوجميع حيث اعتبره الناقدون القلب النابض للمجموعة.
رحيل بوجميع
من بين أهم المراحل في حياة العربي الرجل مرحلة الصداقة مع بوجميع ، حيث يعتبره الشخص الذي أنقذه من عالم التسكع وأدمجه في عالم المسرح والأغنية والإبداع. الصديق الأستاذ الذي تعلم منه الكثير، لكن هذه الصداقة لم يكتب لها أن تدوم طويلا بسبب موت بوجميع بعد رجوع المجموعة من جولة فنية من الجزائر.
بعد سرد أنواع الرحيل التي استجليناها عند قراءة السيرة الذاتية “الرحيل” لا يمكن إغفال تطرق الكاتب ، ولو بطريقة غير مباشرة للرحيل الأكبر ألا وهو الرحيل عن الدنيا. حيث ان العربي بطمة كتب هذه السيرة الذاتية وهو في المستشفى بعد ان علم بأنه مصاب بسرطان الرئة، هذا المرض الخبيث الذي كان سبب وفاة جده وأمه والذي سيكون سبب وفاة العربي بطمة أيضا .
موضوع الرحيل عند العربي بطمة لا ينحصر فقط في كتاب الرحيل بل نجده أيضا في كلمات بعض الأغاني التي كتبها لناس الغيوان متحدثا عن رحيل أمه في أغنية “الشمس الطالعة” أو عن رحيله عن مسقط رأسه في أغنية “فين غادي بيا خويا” بل كانت آخر أغنية كتبها وغناها مع المجموعة تعبر عن رحيله “غادي فحالي” .
المراجع :
العربي بطمة : الرحيل ، دار توبقال للنشر الدارالبيضاء ، الطبعة السادسة 2016
عبد المجيد البغدادي فن السيرة الذاتية وأنواعها في الأدب العربي ، مجلة القسم العربي ، جامعة بنجاب لاهور –باكستان ، العدد 23 ، 2016 م .
5 العربي بطمة الرحيل دار توبقال للنشر الطبعة السادسة 2016 ص 89 .
6 العربي بطمة : الرحيل دار توبقال للنشر الطبعة السادسة 2016 ص 108 .