“بريد تيفي” : حسن السوسي كاتب ومحلل سياسي
كل عمل في مختلف مجالات الممارسة قابل للنقد والتمحيص. يصدق هذا في حال كون منطلق النقد من صنف العمل الخاضع له، كما يصدق على كون الأهداف والغايات من جنسه.
غير أن النقد، ليس عملا يخلو من القواعد والضوابط. بل العكس هو الصحيح. لنأخذ العمل السياسي على سبيل المثال وليس الحصر.
فعملية النقد ليست عملية سلبية بالمطلق، وإنما هي عملية متكاملة قد تتضمن من الإيجابية قدرا ممكنا كما قد تكشف من سلبيات العمل المنجز قدرا ممكنا هو أيضا.
وتشكل العملية التركيبية بين العوامل الإيجابية والعوامل السلبية ما يمكن اعتباره فعلا نقدا بالمعنى المراد إبرازه في هذه المدونة المقتضبة.
واذا أردنا الإشارة إلى بعض قواعد النقد العامة والضرورية لكل ممارسة سياسية أو غيرها فلن نغفل القواعد الأساسية التالية:
أولا، التعامل مع العملية السياسية في مفرداتها الخاصة، وعدم إسقاط مفردات حقل آخر عليها. ولو جاز الاستئناس بمختلف المناهج النقدية الحديثة للتعامل مع عمق الظواهر، بدل الاكتفاء بهوامشها وقشورها.
ثانيا، التعامل مع الممارسة في سياقها الموضوعي، على مستوى الوقائع التي تشكل قاعدتها وأرضيتها الأساسية، كما على مستوى الفاعلين السياسيين الماديين والمعنويين المؤثرين بالضرورة في تحديد نقطة انطلاقها ورسم أهدافها القريبة والبعيدة وتحمل بصماتهم بمختلف الطرق والأشكال في نهاية المطاف.
ثالثا، اعتبار كل نقد سياسي خاضعا لتاريخيته وحدودها، والانطلاق بالتالي، من كونه عملا نسبيا تترتب عليه نتائج نسبية في الزمان والمكان. وليس من مشمولاته المطلقات التي لا تحدها حدود ولا يستوعبها زمان ومكان.
رابعا، الاعتراف بأن النقد السياسي متى كان من فعل الأفراد المعزولين، فإن ذلك يسيجه بمحدداته الخاصة، ويحد بالتالي نطاق صلاحيته بحيث لا يرقى الى مستوى النقد الجماعي والمؤسساتي الذي يتجاوز دائماً ما هو جزئي ليقترب مما هو شامل .
خامسا، اعتماد المنهج المقارن في العملية السياسية أمر هام وحيوي لكن دون السقوط في أي عملية إسقاط تلغي الواقع الموضوعي او تحاول تطويعه ليتلاءم مع واقع آخر يتم اعتباره نموذجا مطلقا في عملية التقييم.
سادسا، الانطلاق من الواقع الملموس بمختلف ابعاده ومعطياته الموضوعية والحرص على ان لا يطغى البعد الذاتي لمن يقوم بعملية النقد على منتوجه من حيث التقليل من أهمية معطيات الواقع او تجاهلها او تسخيرها لتتلاءم مع الرغبات الذاتية بشكل تعسفي.
سابعا، اعتبار كل النظريات التفسيرية للواقع السياسي مجرد فرضيات ينبغي مساءلتها على الدوام، في ضوء معطيات الواقع وتطوراته التي تمنع كل تعامل جامد ومتكلس معها. ذلك أن معطيات الواقع وتطوراته المستمرة هي قاعدة ووسيلة اختبار الفرضيات النظرية التي تشكل عناصر الرؤية إلى الواقع، وليس العكس، أي أن تعارض فرضيات الانطلاق مع معطيات الواقع وتطوراته يفرض اعادة النظر في الفرضيات وليس العمل على تطويع معطيات الواقع لتدخل في قوالب الفرضيات التي يصعب اعتبارها صالحة لمقاربة ذلك الواقع الملموس.
كل نقد سياسي يتجاهل هذه الأبعاد في ممارسته، إلى جانب أبعاد أخرى ملازمة له، وإن لم تتطرق إليها هذه المدونة، يخل بمتطلباته الموضوعية، وينتهي إلى أشكال متنوعة من الاختزال والذاتية التي يمكن أن تقوض عملية النقد وتحولها إلى مجرد انطباعات جزئية، في أحسن أحوالها وهي نادرة، وإلى نوع من العبث السياسي الذي تمليه على البعض مواقفهم المسبقة من العمل الذي يخضع لعملية النقد والتي يتم تجييرها لإضفاء طابع الموضوعية والشمولية الزائفة عليها.